تفسير الآيات من الآية [21] إلي الآية [25] من سورة البقرة

تفسير الآيات من الآية [21] إلي الآية [25] من سورة البقرة
211 0

الوصف

[المعنى الإجمالي]

أمَر الله تعالى جميعَ النَّاس بعبادته؛ لأنَّه هو الذي أوجدهم من العَدم، لعلَّهم بعبادتهم هذه يصِلُون للتقوى؛ فهو سبحانه الذي جعَل لكم الأرضَ ممهَّدة كالفراش، موطأة مثبَّتة يستقرُّ عليها الإنسان، وجعَل السماءَ سقفًا، وهو سبحانه أنزل من السَّحاب مطرًا، فأنبت للناس أنواعًا من الثِّمار رزقًا لهم. ثمَّ نهاهم عن الشِّرك، فقال: ولا تتَّخذوا- أيُّها الناسُ- لله سبحانه نظراءَ بزعمكم، تساوونهم معه في العبادة، وأنتم تعلمون أنَّه إلهٌ واحد، لا نِدَّ له، ولا شريكَ. ثمَّ تحوَّل الخِطابُ إلى الكفَّار والمنافقين، فقيل لهم: إذا كنتم- أيُّها الكفار والمنافقون- في شكٍّ من كون القرآن مُنزَّلًا من عند الله سبحانه على محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فأتُوا من عندكم بسورة من مِثل هذا القرآن، واستعينوا على ذلك بمَن تقدِرون عليه من أعوانكم وشُهدائكم، إنْ كنتم صادقين في زعْمِكم أنَّ القرآنَ كلامٌ مُختلَق. فإنْ لم تأتوا بما تُحدِّيتم به، ولن تأتوا به أبدًا، فجنِّبوا أنفسكم النارَ التي وقودها الناسُ والحجارة، واتقوها بفِعل ما أُمرتم به، واجتنابِ ما نُهيتم عنه. وأخْبِرْ يا نبيَّ الله، مَن جمعوا بين التصديقِ والإقرار والانقياد لما جئتَ به، والعملِ الصالح- أخبِرْهم بما يسرُّهم، وهو أنَّ لهم جزاءً أُخرويًّا هو جنَّات، تَجري الأنهارُ من تحت أشجارها وغُرفها، كلَّما أُعطوا ثمرةً من ثمارها، ظنوها نفْسَ الثمرة التي أُعطوها قبلُ في الدنيا أو في وقتٍ سابقٍ في الجنة، وإنَّما هو متشابه فقط في اللَّون والمنظر، لكن الطَّعم مختلف، ولهم أيضًا في تلك الجنان زوجاتٌ مطهَّرات، طهارة حسيَّة ومعنويَّة، وهم فيها باقون على الدَّوام.

 

[ التفسير التفصيلي ]

يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ٢١ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ٢٢

[توحيد الألوهية]

شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته، بأنه تعالى هو المنعم على عبيده، بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض فراشا أي مهدا كالفراش، مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات ﴿وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ ﴾ وهو السقف، كما قال في الآية الأخرى :

﴿ وَجَعَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ سَقۡفٗا مَّحۡفُوظٗاۖ وَهُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِهَا مُعۡرِضُونَ٣٢ ﴾(الأنبياء: ۳۲)

وأنزل لهم من السماء ماء، والمراد به السحاب ههنا، في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد، رزقا لهم ولأنعامهم، كما قرر هذا في غير موضع من القران .

ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى : ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٦٤ [غافر: 64] ومضمونه : أنه الخالق الرازق، مالك الدار وساكنيها، ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال:﴿ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ٢٢

وفي الصحيحين عن ابن مسعود، قال: قلت: يا رشول الله، أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل الله ندا وهو خلقك» الحديث  وكذا حديث معاني: «أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشر كوا به شيئا ». الحديث ، وفي الحديث الآخر: «لا يقول أحدكم ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شاء فلان»

[دلائل وجود الباري تعالی]

وقد استد به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع تعالى، وهي دالة على ذلك بطريق الأولی، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها، وطباعها ومنافعها، ووضعها في مواضع النفع بها محكمة، علم قدرة خالقها وحكمته، وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه ، كما قال بعض الأعراب، وقد سئل : ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال: يا سبحان الله، إن البعر يدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؛ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟.

فمن تأمل هذه السموات في ارتفاعها واتساعها، وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة، ولها في أنفسها سير يخصها، ونظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف

أشكالها وألوانها كما قال تعالى : وَمِنَ ٱلۡجِبَالِ جُدَدُۢ بِيضٞ وَحُمۡرٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٞ٢٧ وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ (فاطر: ۲۷، ۲۸] وكذلك

هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع، وما ذرأ في الأرض  من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأرابيج والأشكال والألوان، مع اتحاد طبيعة التربة

والماء : استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة  وحكمته ورحمته بخلقه، ولطفه بهم، وإحسانه إليهم وبره  بهم، لا إله غيره ولا رب سواه، عليه توكلت وإليه أنيب،

والآيات في القران الدالة على هذا المقام كثيرة جدا ﴿وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ٢٣ فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ٢٤

 

[إثبات رسالة الرسول صل الله عليه وسلم]

ثم شرع تعالی في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطبا للكافرين: { وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا } يعني محمدا {فأتوا بسورة} من مثل ما جاء به، إن زعمتم أنه من عند غير الله فعارضوه بمثل ما جاء به ، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله ، فإنكم لاتستطيعون ذلك، قال ابن عباس: (شهداءكم) قال :السدي عن أبي مالك: شرکاءكم، أي

قوما آخرين يساعدونكم على ذلك، أي استعينوا بآلهتكم

في ذلك يمدونكم وينصرونكم". وقال مجاهد (وادعوا شهداءكم ) قال: ناس يشهدون به. يعني حكام الفصحاء

[التحدي والإعجار]

وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص : قُلۡ فَأۡتُواْ بِكِتَٰبٖ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهۡدَىٰ مِنۡهُمَآ أَتَّبِعۡهُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ٤٩ [الآية: 49] وقال في سورة الإسراء قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا٨٨ (الاسراء: ۸۸] وقال في سورة هود: أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِعَشۡرِ سُوَرٖ مِّثۡلِهِۦ مُفۡتَرَيَٰتٖ وَٱدۡعُواْ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ [هود: ۱۳) وقال في سورة

أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِعَشۡرِ سُوَرٖ مِّثۡلِهِۦ مُفۡتَرَيَٰتٖ وَٱدۡعُواْ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ [يونس: ۳۷، ۳۸] وكل هذه الآيات مكية

ثم تحداهم بذلك أيضا في المدينة فقال في هذه الآية: ﴿وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ ﴾ أي شك  ﴿مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا ﴾- يعني محمد صل الله عليه وسلم - فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ ، يعني من مثل القرآن، قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير الطبري والزمخشرئ والرازي، ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري، وأكثر المحققين، ورجح ذلك بوجوه من أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين، سواء في ذلك أميهم وكتابيهم، وذلك أكمل التحدي، وأشمل من أن يتحدی آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شينا من العلوم، وبدليل قوله تعالى: (فأتوا بعشر سورمثله، [هود: ۱۳] وقوله : (لا يأتون بمثله) [الإسراء: ۸۸] فهذا التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفض الأمم، وقد تحداهم بها في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبعضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك، ولهذا قال تعالى : {وإن لم تفعلوا ولن تفعلوا }ولن

في التأييد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبدا، وهو أيضا معجزة أخرى، وهو أنه أخبر خبرا جازما  قاطعا مقدما غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وانی يتأتی ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟! -

 

 

[من وجوه إعجاز القرآن]

ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونا ظاهرة وفنية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالی: الٓرۚ كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ١ [هود: 1] فأحكمت ألفاظه وفضلت معانيه، أوبالعكس - على الخلاف - فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحاذي ولايداني، فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت، ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء. وأمر بكل خير، ونهی عن كل شر كما قال تعالى: (وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا [الأنعام: 115] أي صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام، فكله حق وصدق وعدل وهدى، ليس فيه مجازفة ولا كذب و افتراء، كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر : إن أعذبه أكذبه. وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخصي معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع أو شي من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئا إلا قدرة المتكلم المعين: على الشيء الخفي أو الدقيق، أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيه بيتا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد، وسائرها هذر لا طائل تحته

وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا، من فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه، إن تأملت أخباره وجدتها في

غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، ولما تكرر حلا وعلا ، لا يخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء وإن أخذ في الوعيد والتهديد، جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات .. وإن وعد؛ أتى بما يفتح القلوب والآذان، وشوق إلى دار السلام، ومجاورة عرش الرحمن، كما قال في الترغيب :

فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ١٧ [السجدة: ۱۷] وقال : يُطَافُ عَلَيۡهِم بِصِحَافٖ مِّن ذَهَبٖ وَأَكۡوَابٖۖ وَفِيهَا مَا تَشۡتَهِيهِ ٱلۡأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلۡأَعۡيُنُۖ وَأَنتُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ٧١ [الزخرف: ۷۱] وقال في الترهيب : أَفَأَمِنتُمۡ أَن يَخۡسِفَ بِكُمۡ جَانِبَ ٱلۡبَرِّ أَوۡ يُرۡسِلَ عَلَيۡكُمۡ حَاصِبٗا ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمۡ وَكِيلًا٦٨ [الإسراء: 68] ءَأَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخۡسِفَ بِكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ١٦ أَمۡ أَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرۡسِلَ عَلَيۡكُمۡ حَاصِبٗاۖ فَسَتَعۡلَمُونَ كَيۡفَ نَذِيرِ [الملك: 16، 17] وقال في الزجر: فَكُلًّا أَخَذۡنَا بِذَنۢبِهِۦ [العنكبوت: 40] وقال في الوعظ : أَفَرَءَيۡتَ إِن مَّتَّعۡنَٰهُمۡ سِنِينَ٢٠٥ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ٢٠٦ مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ٢٠٧ [الشعراء : 207-205] إلى غير ذلك

من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة

وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف، إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن : ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ ... الآية [الأعراف: ۱۵۷] وإن جاءت الآيات في وصف المعالج وما فيه من الأهوال، وفي وصف الجنة والنار، وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم، والملاذ والعذاب الأليم؛ بشرت به وحذرت وأنذرت، ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا ورغبت في الآخرة، وثبتت على الطريقة المثلي، وهدت إلى صراط الله المستقيم، وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم

[القرآن هو المعجزة العظمى لنبينا محمد ]

ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة - لفظ مسلم – وقوله صل الله عليه وسلم

: وإنما كان الذي أوتيته وحيا» أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القران المعجزة للبشر أن يعارضوه، بخلاف غيره من الكتب الالهية فإنها ليست معجزة عند كثير من العلماء، والله أعلم، وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبؤته وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر، ولله الحمد والمنه .

[المراد بالحجارة ]

وقوله تعالى: فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ [البقرة: 24] أما الوقود، بفتح الواو ، فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه، كما قال تعالى وَأَمَّا ٱلۡقَٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبٗا١٥  [الجن: 15] وقال تعالى: إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمۡ لَهَا وَٰرِدُونَ٩٨ لَوۡ كَانَ هَٰٓؤُلَآءِ ءَالِهَةٗ مَّا وَرَدُوهَاۖ وَكُلّٞ فِيهَا خَٰلِدُونَ٩٩ [الأنبياء: ۹۸، ۹۹] والمراد بالحجارة ههنا هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة، وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت، أجارنا الله منها . وقيل : المراد بها حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال تعالى : {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم}

... الآية [الأنبياء: ۹۸] وقوله تعالى : وأعدت للكفرين الأظهر : أن الضمير في { أعدت }عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة، ويحتمل عوده إلى الحجارة، ولا منافاة بين القولين في المعنى، لأنهما متلازمان، وأعدت أي أصدرت و حصلت للكافرين بالله ورسوله، كما قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس [وأعدت للكفرين]  أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر

 

{إن جهنم موجودة الآن}

وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار

موجودة الآن، لقوله تعالى: (أعدته )أي أصدرت وهيئت، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها : (تحاجت الجنة والنار) ومنها «استاذنت النار ربها فقالت: رب أكل بعضي

بعضا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف وحديث ابن مسعود: سمعنا وجبة، فقلنا: ما هذه؟ فقال رسول الله صل الله عليه وسلم : «هذا حجر ألقى به من شفير جهنم منذ سبعين سنة، الآن وصل إلى قعرها». وهو عند مسلم وحديث صلاة الكسوف وليلة الاسراء، وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنی

وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ٢٥

 

[اجزاء المؤمنين الصالحين]

لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال، عطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة .

وهذا معني تسمية القرآن "مثاني على أصح أقوال العلماء كما سنبسطه في موضعه، وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه، أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه، وحاصلة ذكر  الشيء ومقابله . وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه كما سنوضحه

إن شاء الله فلهذا قال تعالى: (وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ  فوصفها - بأنها تجري من تحتها الأنهار، أي من تحت أشجارها - وغرفها ، وقد جاء في الحديث : أن أنهارها تجري في غير أخدود، وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلو - المجوف، ولا منافاة بينهما، فطينها المسك الأذفر، - وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر، نسأل الله من فضله، إنه هو البر الرحيم

وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسو - الله : أنهار الجنة تفجر تحت تلال - أو من تحت جبال - المسك

) وروي أيضا عن مسروق، قال: قال -

 

عبد الله : أنهار الجنة تفجر من جبل المسك

 

[مشابهة ثمار الجنة بعضها بعض ]

وقوله تعالى: كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ  وروى ابن أبي حاتم عن يحيی ابن أبي كثير ، قال : عشب الجنة الزعفران، وكثبانها المسك، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيا كلونها، ثم يؤتون بمثلها ، فيقول لهم أهل الجنة : هذا، الذي أ تيتمونا آنفا به، فتقول لهم الولدان: كلوا فاللون واحد والطعم مختلف، وهو قول الله تعالى :

{ وأتوا به متشبها } وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية

{ وأتوا به متشبها } قال: يشبه بعضه بعضا، ويختلف في الطعم. وقال عكرمة: { وأتوا به متشبها } قال يشبه

ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيب). وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس : لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء . وفي رواية : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء .

[أزواج أهل الجنة مطهرات]

وقوله تعالى : ولهم فيها أزوج مطهرة قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : مطهره من القذر والأذي وقال مجاهد: من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد وقال قتادة: مطهرة من الأذى والمأثم، وفي رواية عنه

لا حيض ولا كلف وروي عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك

وقوله تعالى: (وهم فيها خلدون) هذا هو تمام السعادة ، فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع، فلا آخر له ولا انقضاء، بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام، والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم، إنه جواد كریم بررحيم

 

 

[الفَوائِد التربويَّة:]

 

1- أوَّل نِداءٍ في المصحَف يوجَّه إلى الناس جميعًا، جاء للأمر بعبادة الله عزَّ وجلَّ وحدَه؛ لأنَّه متَّصفٌ بصفة الخَلْق، فاللهُ هو المستحقُّ لأن يُعبدَ وحدَه؛ لأنَّه هو الخالقُ، الذي أبرَزهم مِن العدمِ إلى الوجودِ، قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وقال: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ .

2- أنَّ التقوى مرتبةٌ عالية لا ينالها، إلَّا مَن أخلص العبادة لله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .

3- في قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، استحبابُ بشارة المؤمنين، وتنشيطهم على الأعمال بذِكر جَزائها وثمراتها .

4- استحضار جلالة المبشِّر ومنزِلته، وصِدقه، وعَظمة مَن أرسله بهذه البشارة، وقدْر ما بشَّر به، وضَمِنه للعِباد على أسهل شيء عليهم وأيسره، وقدْ جمَع سبحانه في هذه البِشارة بين نعيم البَدن بالجنَّات، وما فيها من الأنهار والثِّمار، ونعيم النَّفس بالأزواج المطهَّرة، ونعيم القلب وقُرَّة العين بمعرفة دوامِ هذا العَيش أبدَ الآباد، وعدَم انقطاعه، فقال سبحانه: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .

الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

 

1- أنَّ الإقرارَ بتوحيد الربوبيَّة مستلزمٌ للإقرار بتوحيد الألوهيَّة؛ لقوله تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُم ... .

2- أنَّ من طريق القرآن أنَّه إذا ذَكر الحُكم ذَكر العِلَّة غالبًا؛ فالحكم: اعْبُدُوا رَبَّكُمْ؛ والعلَّة كونه ربًّا خالقًا لنا ولِمَن قَبلنا؛  الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ .

3- أنَّ الله عزَّ وجلَّ منعمٌ على الإنسان كافرًا كان، أو مؤمنًا؛ لقولِه تعالى: لَكُمْ .

4- أنَّه ينبغي لِمَن خاطب أحدًا أن يُبيِّن له ما تقوم به عليه الحُجَّة؛ لقوله تعالى: فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .

5- أنَّ القرآن معجِزٌ كلُّه حتى السُّورة الواحِدة منه، ولو كانتْ قصيرةً؛ لقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ .

6- أنَّ النار مخلوقةٌ الآن؛ لقوله تعالى: أُعِدَّتْ .

7- أنَّ الجناتِ أنواعٌ؛ لقوله تعالى: جَنَّات .

8- لَمَّا كانت مجامعُ اللَّذَّات في المسكَن البَهيِّ، والمطعَم الشَّهيِّ، والمنكَح الوضِيِّ، ذكَرها الله تعالى فيما يُبشَّر به المؤمنون، فوصَف المسكنَ بقوله: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، والمطعَمَ بقوله: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ، والمنكَحَ بقوله: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ، وقد بدأ بالمسكَن؛ لأنَّ به الاستقرارَ في دار المقام، وثنَّى بالمطعَم؛ لأنَّ به قوامَ الأجسام، ثم ذكَر ثالثًا الأزواج؛ لأنَّ بها تمامَ الالتئام .

9- أنَّ جزاءَ المؤمنين العاملين للصالحات أكبرُ بكثير ممَّا عملوا، وأعظم؛ لأنَّهم مهما آمنوا وعملوا، فالعُمُر محدود، ويَنتهي، لكن الجزاء لا يَنتهي أبدًا .

10- في قوله تعالى: وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أنَّ الجنةَ لا تَفنَى، ولا يفنى مَن فيها  فأهل الجنَّة خالدون فيها أبدَ الآباد، وقد أجمَع على ذلك أهلُ السُّنَّة والجَماعة .

مرفق بصيغة بي دي إف
مرفق بصيغة وورد