تفسير الآيات من الآية [8] إلي الآية [20] من سورة البقرة

تفسير الآيات من الآية [8] إلي الآية [20] من سورة البقرة
204 0

الوصف

 

[ذكر المنافقين]

لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آیات ثم عرف حال الكافرين بهاتين الآيتين شرع تعالی في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة كل منها نفاق، كما أنزل سورة براءة فيهم، وسورة المنافقين فيهم، و هم في سورۃ النور وغيرها من السور تعريفا لأحوالهم لتجتب، ويجتنب من تلبس بها أيضا، فقال تعالى :

﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ٩

[معنى النفاق ]

النفاق، هو: إظهار الخير وإسرار الشر. وهو أنواع : إعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار. وعملي وهو من أكبر الذنوب، كما سيأتي تفصيله في موضعه؛ إن شاء الله تعالى ، وهذا كما قال ابن جريج : المنافق يخالف قوله فعله، وسره علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه .

[ بداية النفاق ]

وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية لأن مكة لم يكن فيها نفاق، بل كان خلافه، من الناس من كان يظهر الكفر مستكرها وهو في الباطن مؤمن ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل : بنو قينقاع

خلفاء الخزرج، وبنوالنضير وبنو قريظة حلفاء  الأوس، فلما قدم رسول الله  المدينة، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقل من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه ، ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا، لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت وقعة بدر وأظهر الله كلمته وأعز الإسلام وأهله قال عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان رأسا في المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عثروا على أن يملكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر قال: هذا أمر الله قد توجه، فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثم وجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها بين الأعراب، فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد نافق، لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرها، بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة .

 

[المعنى الإجمالي]

يُخبر الله عزَّ وجلَّ في هذه الآيات عن صِنف من الناس، يدَّعون بألسنتهم أنَّهم مؤمنون بالله، وبالبعث يومَ القِيامة، وهم مع ذلِك غيرُ مقرِّين بالإيمان حقيقةً بقلوبهم، وهم بفِعلهم هذا يَقصِدون مخادعةَ الله والذين آمنوا بادعاء الإيمان لأنفسهم، وإخفاءِ كُفرِهم، لكن بيَّن الله سبحانه أنَّ ما يقومون به ما هو إلَّا خديعة لأنفسهم، وذلك بِخذلان الله لهم في الدَّارينِ، وهم لا يحسُّون بأنَّهم هم المخدوعون.

في قلوب هؤلاء الصِّنف شكٌّ ونفاق، فزادهم الله شكًّا إلى شكِّهم، ونِفاقًا إلى نفاقهم، ولهم مع ذلك عذاب موجِع؛ جزاءً لكذبهم وإظهارِهم غيرَ الحقيقة، ولتكذيبهم لله تعالى ولرسولِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ.

وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: لا تُفسدوا في الأرض بالمعاصي، والنِّفاق والكُفر، واتِّخاذ الكافرين أولياءَ، قالوا: ما نقومُ به هو الإصلاح! وكذَبوا في ذلك، بل هم بعيدون عن الإصلاح، بكُفرهم ومعاصيهم، ومع هذا لا يدرون أنَّ ما يقومون به هو فسادٌ في الحقيقة.

وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: آمنوا بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وبما جاء به من ربِّه، كما آمن به أصحابُه رضي الله عنهم، قالوا أنؤمن كما آمن ضعفاء الرأي والعقولِ، ونفعل كما فعلوا؟!- يقصدون بذلك أصحابَ محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام- فأخبرهم الله تعالى أنَّهم هم ضعفاءُ العقول والرأي؛ فهم السُّفهاء في واقِع الأمر، ومع ذلك لا يعلمون بحقيقةِ سفههم.

وإذا لقِي هؤلاء المنافقون المؤمنين أخبروهم- كذبًا- أنَّهم مؤمِنون أيضًا، وإذا انصرفوا إلى رُؤسائهم من سادات الكفَّار والمشركين، والمنافقين، وكانوا معهم في خَلوة، قالوا لهم: إنَّا ما زلنا معكم على دِينكم، إنما نحن ساخِرون بالمؤمنين حين نقول لهم: آمنَّا بالله وباليوم الآخِر.

ثمَّ أخبر الله سبحانه أنَّه يَستهزئ بهم؛ مقابلةً لاستهزائِهم بالمؤمنين، وذلك بأن يُجري عليهم ما على المؤمنين من الأحكام الظاهِرة، كعصمة دِمائهم وأموالهم، ثم في الآخِرة يَلقَون جزاءَهم الأليم وحْدَهم، بأن يُلقَوا في الدَّرك الأسفل من النار، فكان هذا استهزاءً بهم، ويُملي الله لهؤلاء المنافقين بأنْ يتركَهم في عُتوِّهم وتمرُّدهم بالكُفر، يتردَّدون حيارَى ضُلَّالًا، لا يجدون سبيلًا للخروج ممَّا هم فيه.

هؤلاء الصِّنف من البَشر هم الذين أخذوا الضَّلالة وترَكوا الهدى، فخسِروا وما كانوا راشدين بفِعلهم هذا.

مثَل هؤلاء المنافقين في إيمانهم ثمَّ كُفرهم بعد أن تبيَّن لهم الحق، كمَثَل مَن أوقد نارًا؛ لتضيءَ له، وينتفع بها، فلمَّا أنارتِ النارُ ما حول المستوقِد، فأبصر ما ينفعُه وما يضرُّه، خمَدت النار، وانطفأ النور، فذهب عنهم ما ينفعهم، وهو النور، وبقي ما يضرُّهم وهو الإحراقُ والدُّخَان، هؤلاء المنافقون صمٌّ لا يَسمعون هُدًى، وبكمٌّ لا ينطِقون به، وعميٌ لا يُبصرونه بقلوبهم؛ فهم لذلك لا يعودون إلى الهُدى الذي باعوه بالضَّلالة.

وضرَب الله مثلًا آخَر لصنف آخر من المنافقين، وهو كصاحب مطرٍ منحدرٍ من السَّماء، فيه ظلماتٌ- هي ظلمة اللَّيل، وظلمة السَّحاب، وظلمة المطر- ورَعْد وبَرْق، كلَّما سمعوا صوت صاعقة، غطوا آذانهم بأصابعهم، يتَّقون بذلك سماعَ أصوات الصَّواعق المدوية، حذرًا من أن تصيبَهم فيموتوا، والله محيطٌ بهم قُدرةً وعلمًا؛ فلا يُعجِزونه، ولا يُغني عنهم حذرُهم شيئًا، يوشك البرقُ لشدَّة لمعانه وضعف أبصارهم، أن يَذهب بها فيُعميَها، كلَّما ظهرَ لهم نورُ البرق مشَوْا خُطوات، فإذا أظلم ما حولهم بتوقُّف البرق وقَفوا، ولو أراد الله لأخَذَ أسماعهم وأبصارهم، والله ذو قُدرةٍ بالغة على كلِّ شيء؛ فلا يُعجزه أمر أبدًا.

والمراد بهذا المثَل أنَّ المنافقين إذا سمِعوا القرآن، وتُليت عليهم تكاليفُه ووعيدُه، وما فيه، اتَّقَوا سماع آياته؛ خوفًا من أن يحلَّ بهم الوعيد، وإشفاقًا من عقوبة نِفاقهم، سواء في الدُّنيا أو في الآخِرة، ولن ينفعهم اتقاؤُهم؛ فالله سبحانه محيطٌ بهم قدرةً وعلمًا، يوشك شدَّةُ نور القرآن بما تضمَّنه من البراهين القويَّة أن يرى معه هؤلاء المنافقون الحقَّ واضحًا، لكن لضعف بصائرهم لا يَستفيدون من ذلك النور، ومع ذلك كلَّما أضاء لهم نورُ الحقِّ، أو لَمَع في قلوبهم، مشَوا على ضوئه خطواتٍ قليلةً في سبيل الانقياد للحقِّ، لكن لا يمكُث ذلك الحقُّ في قلوبهم التي أظلمتْ بالشُّبهات والشكوك القوية أن يَخفِت فتعود لظُلمتها، فيقِفوا حائرين، ثم توعَّدهم الله بإذهاب أسماعهم وأبصارهم؛ عقوبةً لهم على نفاقهم وكُفرهم، والله ذو قُدرة بالغةٍ على كلِّ شيء.

روی محمد بن إسحاق عن ابن عباس ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ

يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم  وكذا فسرها بالمنافقين من الأوس والخزرج أبو العالية والحسن وقتادة والسدي، ولهذا نبه الله سبحانه على  صفات المنافقين، لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع  بذلك فساد عريض من عدم الإحتراز منهم ومن اعتقاد إيمانهم، وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من  المحزورات الكبار أن يظن بأهل الفجور ، فقال تعالی :

﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ

أي يقولون ذلك قولا ليس وراءه شي آخر كما - قال تعالى :

﴿إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ قَالُواْ نَشۡهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ[المنافقون: 1]

أي إنما يقولون ذلك إذا جاءوك فقط لا في نفس الأمر، ولهذا يؤكدون في الشهادة " بإن" و"لام التأكيد" في خبرها . أكدوا أمرهم قالوا: آمنا بالله وباليوم الآخر. وليس الأمر كذلك، كما كذبهم الله في شهادتهم وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم بقوله تعالى : ﴿وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُون ﴾[المنافقون: 1] وبقوله : ﴿وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ

 

وقوله تعالى : ﴿يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ  ﴾ [۹] أي بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، كما قال تعالى : ﴿يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعٗا فَيَحۡلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍۚ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ [المجادلة : ۱۸] ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله :

﴿وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ يقول : وما يغرون بصنيعهم هذا، ولا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك من أنفسهم، كما قال تعالى : ﴿ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ﴾ [النساء: 142]. وروى ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله تعالى ﴿يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ  ﴾ قال : يظهرون لا إله إلا الله، يريدون أن يحرزوا بذلك دمائهم وأموالهم، وفي أنفسهم غير ذلك

 

[المراد بالمرض]

قال السدي عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس وممن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله في هذه الآية﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ قال : شك، فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ  قال : شكا. وكذلك قال مجاهد وعكرمة والحسن البصري وأبو العالية والربيع ابن أنس وقتاده  وقال عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ قال : هذا مرض في الدين، وليس مرضا في الأجساد، وهم المنا فقون، والمرض: الشك الذي دخلهم في الإسلام ﴿فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ  ﴾قال : زادهم رجسا  وقرأ : فأما الذين عاما فزادتهم إيما وهم يستبشرون﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَهُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ١٢٤ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَتۡهُمۡ رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ [التوبة: 124،125] قال : شراً إلى شرهم وضلاله إلى ضلالتهم، وهذا الذي قاله عبد الرحمن - رحمه الله - ، وهو الجزاء من جنس العمل، وذلك قاله الأولون، وهو نظير قوله تعالى أيضا: ﴿وَٱلَّذِينَ ٱهۡتَدَوۡاْ زَادَهُمۡ هُدٗى وَءَاتَىٰهُمۡ تَقۡوَىٰهُمۡ ﴾ [محمد: ۱۷] وقوله : ﴿بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ  وقرئ ﴾ (يكذبون)، وقد كانوا متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كذبه، ويكذبون بالغيب، يجمعون بين هذا وهذا .

 

[المراد بالفساډ]

قال السدي في تفسير عن ابن عباس وعن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صل الله عليه وسلم﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ قال: هم المنافقون، أما﴿ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ  قال :( الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية). وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قال: يعني لا تعصوا في الأرض. وكان فسادهم ذلك معصية الله ، لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة. وهكذا قال الربيع بن أنس وقتاده

[أنواع فساد المنافقين]

قال ابن جرير : فأهل النفاق مفسدون في الأرض : بمعصيتهم فيها ربهم. وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه . وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه الذي لا يقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته . وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب. ومظاهرتهم أهل التعذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا . فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ   يقول تعالى : وإذا قيل للمنافقين ءامنوا كما امن الناس أي كإيماني الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والجنة والنار، وغير ذلك مما أخبر

 

المؤمنين به وعنه، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر ﴿قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ -  يعنون لعنهم الله - أصحاب رسول الله رضي الله عنهم، قاله أبو العالية والسدي في تفسيره بسنده

عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة. وبه يقول الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم). وغيرهم. يقولون: أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة، وعلى طريقة واحدة، وهم سفهاء؟

والسفهاء جمع سفيه كما أن الحكماء جمع حكيم والحلماء جمع حليم، والسفيه هو الجاهل الضعيف الرأي، القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار، ولهذا سم الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى :﴿ وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا  ﴾[النساء: 5] قال عامة علماء التفسير : هم النساء والصبيان وقد تولى الله سبحانه جوابهم في هذه المواطن كلها فقال :﴿ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآء

و أكد وحضر التفاهة فيهم ولكن لا يعلمون يعني ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى، والبعد عن الهدى.

﴿وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ١٤ ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ١٥

[مكر المنافقين وخداعهم ]

يقول تعالى : وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: آمنا، وأظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة

غرورا منهم للمؤمنين، ونفاقا ومصانعة وتقية، وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم ﴿وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ ﴾ يعني إذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم - وشياطينهم: سادتهم وكبراؤهم من أخبار اليهوډ ورؤوس المشركين والمنافقين.

[شياطين الجن والإنس]

قال ابن جرير : وشياطين كل شيء مردته، ويكون الشيطان من الإنس والجن كما قال تعالى : ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ١١٢ [الأنعام: ۱۱۲]

[معنى الاستهزاء]

وقوله : ﴿قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس: أي إنا على مثل ما أنتم عليه ﴿إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ أي إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم ) . وقال الضحاك عن ابن عباس قالوا :﴿ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ

ساخرون بأصحاب محمد ، وكذلك قال الربيع بن أنس وقتادة وقوله تعالی جوابا ومقابلة على صنيعهم ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ وقال ابن جرير : أخبر تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى :﴿ يَوۡمَ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ١٣   ... الآية [الحديد: ۱۳]، وقوله تعالى:﴿ وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٞ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ١٧٨  ... الآية [آل عمران: ۱۷۸]، قال : هذا وما أشبهه من استهزاء الله - تعالى ذكره - وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به .

[مكر المنافقين وباله عليهم ]

فهذا إخبار من الله تعالى أنه مجازيهم جزاء الإستهزاء،  ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج خبره عن جزائه إياهم - وعقابه لهم خرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب، في اللفظ، وإن اختلف المعنيان، كما قال الله تعالی : وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَاۖ فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۚ [الشوری : 40] وقوله تعالى : ومن أعتدى عليكم فأعتدوا علیه  [البقرة: ۱۹4] فالأول ظلم والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظهما فقد اختلف معناهما، قال : وإلى هذا المعنى – وجوها كل ما في القرآن من نظائر ذلك. لأن المكروالخداع والسخيرة على وجو الله والعبث منتف عن الله عز

وجل بالإجماع، وأما على وجه الانتقام والمقابلة  بالعدل والمجازاه فلا يمتنع ذلك .

[المد والطغيان والعمة]

وقوله تعالى : " و هم في طغينهم يعمهون» [البقرة : ۱5]

روى السدي عن ابن عباس، وابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي : "ويمدهم": يملي لهم. وقال مجاهد: يزيدهم. وقال تعالى : أَيَحۡسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ٥٥ نُسَارِعُ لَهُمۡ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ بَل لَّا يَشۡعُرُونَ [المؤمنون : 55، 56] قال ابن جرير : والصواب نزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم كما قال تعالى:

وَنُقَلِّبُ أَفئدَتَهُمۡ وَأَبۡصَٰرَهُمۡ كَمَا لَمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهِۦٓ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَنَذَرُهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ١١٠

[الأنعام: 110]

والطغيان : هو المجاوزه في الشي؛ كما قال تعالى : إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلۡمَآءُ حَمَلۡنَٰكُمۡ فِي ٱلۡجَارِيَةِ١١ [الحاقة : ۱۱] قال ابن جرير : و( العمه): الضلال. يقال : عمة فلان يعمه عمها وعموها إذا ضل، قال : وقوله : وفي طغينهم يعمهون في ضلالتهم وكفرهم الذي غمرهم دنسه وعلاهم رجسه، يترددون حياری

 

ضلا لا لايجدون إلى المخرج منه سبيلا، لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ روى السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وعن ناس من الصحابة أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ قال : أخذوا الضلالة وتركوا الهدي. وقال مجاهد : آمنوا ثم كفورا؟). وقال قتادة : استحبوا الضلالة على الهدى  ، وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيۡنَٰهُمۡ فَٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡعَمَىٰ عَلَى ٱلۡهُدَىٰ  [فصلت : ۱۷]

وحصل قول المفسرين فيما تقدم أن المنافقين عدلوا عن الهدي إلى الضلال واعتاضوا عن الهدی بالضلالة . وهو معنى قوله تعالى : أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ  أي بذلوا الهدي ثمنا للضلالة وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر، كما قال تعالى فيهم: ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ [المنافقون: ۳] أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى كما يكون حال فريق آخر بينهم، فإنهم أنواع وأقسام، ولهذا قال تعالی : فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ أي ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، وما كانوا مهتدين أي راشډين في صنيعهم ذلك . وروى ابن جرير عن قتادة فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ، وبين الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة). وهكذا رواه ابن أبي حاتم بمثله سواء .

مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ١٧ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ١٨  مثل المنافقين تقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى،

بمن استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتأنس بها، فبينا هو كذلك إذ

 

طفئت ناره، وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضا عن الهدی واستحبابهم الغي على الرشد. وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، والله أعلم.

وقوله تعالى : ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ  أي ذهب عنهم بما ينفعهم، وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم، وهو الاحراق والدخان " وتركهم في ظلمات "  وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق "لا يبصرون " لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها، وهم مع ذلك " صم " لا يسمعون خيرا

"بكم" لا يتكلمون بما ينفعهم "عمي " في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى : أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ٤٦ [الحج:46] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.

أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ١٩ يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ٢٠.

[مثل آخر للمنافقين]

هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشگون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم

"كصيب" والصيب: المطر. قاله ابن مسعود وابن عباس، وناس من الصحابة). وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير ، وعطاء والحسن البصري، وقتادة وعطية  العوفي وعطاء الخراساني، والسدي والربيع بن أنس . وقال الضحاك : هو السحاب). والأشهر هو المطر نزل

من السماء في حال ظلمات، وهي: الشكوك والكفر والنفاق "ورعد"  وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع كما قال تعالی : يَحۡسَبُونَ كُلَّ صَيۡحَةٍ عَلَيۡهِمۡۚ [المنافقون: 4] وقال وَيَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمۡ لَمِنكُمۡ وَمَا هُم مِّنكُمۡ وَلَٰكِنَّهُمۡ قَوۡمٞ يَفۡرَقُونَ٥٦ لَوۡ يَجِدُونَ مَلۡجًَٔا أَوۡ مَغَٰرَٰتٍ أَوۡ مُدَّخَلٗا لَّوَلَّوۡاْ إِلَيۡهِ وَهُمۡ يَجۡمَحُونَ٥٧ [التوبة: 56، 57] و "البرق" هو ما يملح في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان ولهذا قال يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَأي ولا يجدي عنهم حذرهم شيئا ، لأن الله محيط بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته ، كما قال هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ٱلۡجُنُودِ١٧ فِرۡعَوۡنَ وَثَمُودَ١٨ بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكۡذِيبٖ١٩ وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطُۢ٢٠ [ البروج :۱۷-۲۰] بهم.

ثم قال: يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ  إي لشدته وقوته في نفسه، وضعف بصائرهم وعدم ثباتهام للإيمان . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ  يقول : يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين. وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس : كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ يقول : لما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه، وإذا أصاب الاسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر؟). كقوله تعالى : وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ [الحج: ۱۱] وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس وكلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا أي يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة، فإذا ا رتكسوا منه إلى الكفر قاموا أي متحيرين". وهكذا قال أبو العالية والحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس، والسدي بسنده عن الصجابة، وهو أصح وأظهر والله أعلم).

وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ وأكثر من ذلك وأقل من ذلك، ومنهم من

يطفا نوره تارة ويضيء أخرى، فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى، ومنهم من يطفأ نوره بالكلية، وهم الخلص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم: يَوۡمَ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ

[الحديد:۱۳]. وقال في حق المؤمنين : يَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَسۡعَىٰ نُورُهُم بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۖ بُشۡرَىٰكُمُ ٱلۡيَوۡمَ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ١٢ [الحديد: ۱۲]، وقال تعالى : يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَةٗ نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمۡ سَئَِّاتِكُمۡ وَيُدۡخِلَكُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ يَوۡمَ لَا يُخۡزِي ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥۖ نُورُهُمۡ يَسۡعَىٰ بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ٨ [التحريم: 8].

ذكر الحديث الوارد في ذلك روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود نورهم يسعى بين أيديهم قال:" على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى. وروى ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس قال: ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نورا يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا [التحريم: 8]). وقال الضحاك بن مزاحم:

يعطی گل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نورا، فإذا انتهى إلى الصراط فى نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا فقالوا رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا [التحريم : ۸]

[أقسام المؤمنين وأقسام الكافرين والمنافقين]

فإذا تقرر هذا صار الناس أقساما، مؤيمن ځلص، وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أول البقرة، وكفار څلص، وهم الموصوفون بالآيتين بعدها، ومنافقون وهم قسمان : ځلص، وهم المضرب لهم المثل الناري، ومنافقون يترددون، تارة يظهر لهم مع الإيمان وتارة يخبو، وهم أصحاب المثل المائي، وهم أخف حالا من الذين قبلهم.

ثم ضرب مثل العباد من الكفار الذين يعتقدون أنهم على شيء وليسوا على شيء، وهم أصحاب الجهل

المركب في قوله تعالى : وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَسَرَابِۢ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمَۡٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡٔٗا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥۗ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ الآية [النور: ۳۹]، ثم ضرب مثل الكفار الجهال الجهل البسيط، وهم الذين قال تعالى فيهم: أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ [النور: 40] فقسم الكفار ههنا إلى قسمين : داعية ومقلد، كما ذكرها في أول سورة الحج وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيۡطَٰنٖ مَّرِيدٖ وقال وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ [الحج: ۳، ۸.]

وقد قسم الله المؤمنين في أول الواقعة وفي آخرها، | وفي سورة الإنسان إلى قسمين : سابقون وهم المقربون، وأصحاب يمين وهم الأبرار.

فتلخص من مجموع هذه الآيات الكريمات أن المؤمنين صنفان : مقربون وأبرار، وأن الكافرين صنفان : دعاة ومقلدون، وأن المنافقين أيضا صنفان : منافق خالص، ومنافق فيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي : «ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان في واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن ځان» إستدلوا به على أن الإنسان قد تكون فية شعبة من إيمان وشعبه من نفاق. إما عملي - لهذا الحديث - أو اعتقاډي، كما دلت عليه الآيه .

 

الفَوائِد التربويَّة:

 

1- أنَّ مجرد القول باللِّسان لا ينفع الإنسانَ، فلا بدَّ أن يتطابق القلبُ، واللِّسان على الإيمان؛ لقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. فهنا نفَى اللهُ عنهم الإيمانَ، فدلَّ على أنَّ حقيقة الإيمان ليس مجرد الإقرار باللسان  .

2- التحفُّظ من المنافقين فقد قال تعالى عنهم: يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9)؛ لأنَّه إذا قيل لك: (فلان يخدع) فإنَّك تزداد تحفظًا منه، وأنَّه ينبغي للمؤمن أن يكون يقظًا حذِرًا؛ فلا ينخدع بمِثل هؤلاء  .

3- أنَّ المكر السيِّئ لا يحيق إلَّا بأهله؛ فالمنافقون يُخادعون الله، ويظنُّون أنَّهم قد نجحوا، أو غلَبوا، ولكن في الحقيقة أنَّ الخداع عائدٌ عليهم؛ لقوله تعالى: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، فالحصر هنا يدلُّ على أنَّ خداعهم هذا لا يضرُّ الله تعالى شيئًا، ولا رسولَه، ولا المؤمنين  .

4- أن الإنسان إذا لم يكن له إقبال على الحق، وكان قلبه مريضًا فإنه يعاقب بزيادة المرض؛ لقوله تعالى: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا  .

5- أنَّ أسبابَ إضلال الله العبدَ هي من العبد؛ لقوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللهُ مَرَضًا  .

6- أنَّ من أعظم البلوى أن يُزَيَّن للإنسان الفسادُ، حتى يَرى أنَّه إصلاح؛ لقولهم: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ  .

7- أنَّه ليس كلُّ مَن ادَّعى شيئًا يُصدَّق في دعواه؛ لأنَّهم قالوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، فقال الله تعالى: أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ، وليس كل ما زيَّنته النفس يكون حسنًا، كما قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر: 8]  .

8- العمل السيِّئ قد يُعمي البصيرة؛ فلا يَشعُر الإنسان بالأمور الظاهِرة؛ لقوله تعالى: وَمَا يَشْعُرُونَ  .

9- أن يُذكرَ للمدعوِّ، من استجاب من الناس للحقِّ؛ ليكون ذلك مشجِّعًا له على قَبوله، لقوله تعالى: آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ  .

10- أنَّ الإنسان قد يظنُّ أنه أحسنَ عملًا وهو قد أساء؛ لأنَّ هؤلاء اشترَوُا الضلالة بالهدى؛ ظنًّا منهم أنَّهم على صواب، وأنهم رابِحون؛ فقال الله تعالى: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ  .

11- أنَّ للإيمان نورًا، وله تأثيرٌ حتى في قلب المنافق؛ لقوله تعالى: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ  .

12- أنَّه ينبغي للإنسان أن يسألَ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يُمتِّعه بسَمْعه، وبصره؛ لقوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ

١٣ - في قوله تعالى: اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ إثباتُ صِفة الاستهزاء لله تعالى، وهي صفةٌ فعليَّة خبريَّة، ثابتةٌ لله عزَّ وجلَّ، على وجه المقابَلَة والجزاء؛ لذا فهي صفة كمالٍ له

مرفق بصيغة بي دي إف
مرفق بصيغة وورد