تفسير الآيات [30-33] من سورة البقرة

تفسير الآيات [30-33] من سورة البقرة
209 0

الوصف

[تفسير الآيات (30:33)]

 

﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ٣٠﴾

 

[إستخلاف آدم وبنيه للملائكة وما قالوه ]

يخبر تعالی بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملاء الأعلى قبل إيجادهم، فقال تعالى: ۳۰] أي واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة، واقصص على قومك ذلك . وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَٰٓئِفَ ٱلۡأَرۡضِ ﴾ [الأنعام: 165] وقال: 62] وقال: ﴿وَلَوۡ نَشَآءُ لَجَعَلۡنَا مِنكُم مَّلَٰٓئِكَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَخۡلُفُونَ﴾

[الزخرف: 60] وقال :﴿ 169، ومريم: 59] والظاهر أنه لم يرد آدم عينا، إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة : ﴿أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ ﴾ فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص . أو بما فهموه من الطبيعة البشرية، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون. أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم، ويردعهم عن المحارم والمأثم، قاله القطبي.

وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الخير لبني آدم كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي: لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه، وهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقا - قال قتادة : وقد تقدم إليهم أنهم يفيدون فيها - فقالوا: ﴿أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ ﴾ الآية...، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ؟ فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي نصلي لك، كما سيأتي. أي ولا يصدر منا شيء من ذلك ، وهلا وقع الاقتصار علينا؟

قال الله تعالی مجيبا لهم عن هذا السؤال : ﴿إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ٣٠﴾ أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها مالا تعلمون أنتم، فإني جاعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون، والعباد والزهاد والأولياء والأبرار، والمقربون والعلماء العامون، والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى، المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم.

وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده يسألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون.

 وذلك لأنهم يتعاقبون فيينا ، ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال، كما قال عليه الصلاة والسلام: [يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل].

فقولهم : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله لهم:

﴿إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ٣٠﴾

 

﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنۢبُِٔونِي بِأَسۡمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ٣١ قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ٣٢ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ غَيۡبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ٣٣﴾

 

[ فضل ادم على الملائكة]

هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له ، وإنما قدم هذا الفضل على ذلك لمناسبة ما بين المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة - حين سألوا عن ذلك، فأخبرهم تعالی بانه يعلم ما لا يعلمون - ولهذا ذكر الله هذا المقام عقيب هذا، ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في الحلم، فقال تعالى : ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ﴾ قال: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس، إنسان ودابة وسماء وأرض وسهل وبحر ونخيل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.

وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عاصم بن كليب عن سعيد بن معبد عن ابن عباس ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا﴾  قال: علمه اسم الصفحة والقدر؟ قال: نعم حتى الفسوة والفسية).

وقيل : أسماء النجوم، وقيل : أسماء ذريته كلهم.

واختار ابن جرير : أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية. والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها ذواتها وصفاتها وأفعالها، كما قال ابن عباس: حتى الفسوة والفسية ، يعني أسماء الذوات والأفعال - الكبير والمصغر .

وروى البخاري في تفسير هذه الآية في كتاب التفسير من صحيحه عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقال لي خليفه: حدثنا يزيد بن زريع : حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجتمع المؤمون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون : أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك

 

[تفسير سورة البقرة، الآية : ۳۳ ]

حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحيي. أئتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتونه فقول: لست هناكم، وذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم، فيستحيي، فيقول: أئتوا موسي خليل الرحمن، فيأتونه فيقول: لست هناكم، فيقول: أئتوا موسى عبدا كلمه الله، وأعطاه التوراة، فقول: لست هناكم .

 فيذكر قتل النفس بغير نفس فيستحي من ربه . فيقول: أئتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمة الله وروحه، فيأتونه فيقول: لست هناكم، آئتوا محمدا عبدا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فانطلق حتى أستاذن على ربي فيأذن لي، فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله ثم يقال: ارفع رأسك وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه فإذا رأيت ربي - مثله - ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة ثم أعود الرابعة فأقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود».

 وقد روى هذا الحديث مسلم والنسائي وابن ماجه

ووجه إيراده ههنا، والمقصود منه قوله عليه الصلاه والسلام : فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء. فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات ولهذا قال : ﴿﴿فَقَالَ أَنۢبُِٔونِي بِأَسۡمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِين ﴾ ومعنى ذلك فقال : أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيها الملائكه القائلون: ﴿أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ ﴾ من غيرنا أم منا – فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ إن كنتم صادقين في قبلكم إني إن جعلت خليفتي في الأرض من غیركم عصاني وذريته، وأفسدوا وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم، قأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم وجذ؛ أحرى أن تكونوا غير عالمين.

﴿قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ٣٢

هذا تقدیس وتنزية من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من عليه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم الله تعالی ولهذا قالوا : ﴿قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ٣٢﴾ أي العليم بكل شيء الحكيم في خلقك وأمرك، وفي تعليم من تشاء، ومنعك من تشاء ، لك الحكم في ذلك والعدل التام.

 

[ إظهار فضل آدم بعلمه ]

قوله تعالى: ﴿َقالَ يَٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ غَيۡبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ٣٣﴾

قال زيد بن أسلم: قال: أنت جبرائیل، أنت ميكائيل، أنت إسرافيل، حتي عدد الأسماء كلها حتى بلغ الغراب.

وقال مجاهد في قول الله : ﴿ۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ غَيۡبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ٣٣﴾

أي ألم أتقدم إليكم إني أعلم الغيب الظاهر والخفي كما قال تعالى ، وكما قال إخبارا عن الهدهد أنه قال لسليمان :

﴿أَلَّاۤ يَسۡجُدُواْۤ لِلَّهِ ٱلَّذِي يُخۡرِجُ ٱلۡخَبۡءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُخۡفُونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ٢٥ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ۩٢٦﴾

[النمل: 26، 26]

[ الفَوائِد التربويَّة ]

1- في قوله تعالى: فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، جوازُ امتحانِ الإنسان بما يدَّعي أنَّه

مُجيدٌ فيه .

 2- جواز التحدِّي بالعبارات التي يكون فيها شيءٌ من الشدَّة؛ لقوله تعالى: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .

 3- في قوله تعالى: أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، إشارةٌ إلى تقرير المخاطَب بما لا يُمكنه دفعُه .

 4- عمومُ عِلم الله عزَّ وجلَّ، وأنَّه يتعلق بالمُشاهَد، والغائِب، وأنَّ الله تعالى عالِم بما في القلوب، سواء أُبدِي أم أُخفي، وهذه المعرفة تَزرع في القلب خشيةَ الله تبارك وتعالى .

 

[ الفوائد العلميَّة واللَّطائف ]

1- دلَّ قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً على أنَّه يَعلم أنَّ آدَمَ يَخرُج من الجَنَّة؛ فإنَّه لولا خروجُه من الجنة لم يَصِرْ خليفةً في الأرض، فإنَّه أمَرَه أن يسكُن الجنة ولا يأكل من الشجرة، ونهاه عن طاعة إبليس، وقد علِم قبل ذلك أنه يخرج من الجنَّة، وأنَّه إنَّما يخرُج منها بسبب طاعته إبليسَ، وأكْله من الشَّجرة؛ ولهذا قال مَن قال من السَّلف: إنَّه قدَّر خروجه من الجنة قبل أن يأمُرَه بدخولها بقوله: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً .

 2- في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ إثباتُ القول لله عزَّ وجلَّ، وأنَّه بحَرْف، وصوت؛ وهذا مذهبُ السَّلَف الصَّالح .

 3- في قوله تعالى: قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، جاء ابتِداء خِطاب آدَم بندائه مع أنَّه غيرُ بعيد عن سماع الأمْر الإلهيِّ؛ للتنويه بشأن آدَم، وإظهار اسمه في الملأ الأعلى؛ حتى ينالَ بذلك حُسنَ السُّمعة، مع ما فيه من التكريم عند الآمِر؛ لأنَّ شأن الآمِر والمُخاطِب إذا تَلطَّفَ مع المُخاطَب أن يَذكُرَ اسمَه ولا يَقتصرَ على ضمير الخطاب؛ حتى لا يساويَ بخِطابِه كلَّ خِطاب، ومنه ما جاء في حديث الشَّفاعة بعد ذِكر سجود النبيِّ وحمْدِه اللهَ بمحامدَ يُلهمه إيَّاها، فيقول: ((يَا مُحمَّدُ، ارفعْ رأسك، سَلْ تُعطَ، واشفعْ تُشفَّع )) .

مرفق بصيغة بي دي إف
مرفق بصيغة وورد