تفسير سورة الفاتحة
الوصف
أسماء سورة الفاتحة
ثبتَت لسورة الفاتحة عدَّةُ أسماء، وهي:
1- فاتحة الكِتاب .
2- أمُّ القرآن .
3- أُمُّ الكِتاب .
4- السَّبْع المَثاني .
5- القُرآن العظيم .
6- سورة الحَمْد .
الأدلَّة:
1- عن عُبادةَ بن الصَّامتِ رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا صلاةَ لِمَن لم يقرأْ بفاتحةِ الكِتاب )) .
2- عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: ((كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُخَفِّفُ الرَّكعتَينِ اللَّتَينِ قبلَ صلاةِ الصُّبحِ، حتى إني لأقولُ: هل قرَأ بأمِّ الكتابِ؟! )) .
3- عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((أمُّ القُرآنِ هي السَّبْع المثاني، والقرآنُ العَظيم )) .
4- عن أبي سَعيدِ بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: ((مرَّ بي النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا أُصلِّي، فدَعاني فلم آتِهِ حتى صلَّيتُ، ثم أتَيتُ فقال: ما منَعك أن تأتيَ؟ فقلتُ: كنتُ أُصلِّي، فقال: ألم يقُلِ اللهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ؟! ثم قال: ألَا أُعَلِّمُك أعظمَ سورةٍ في القرآنِ قبلَ أن أخرُجَ منَ المسجدِ؟ فذهَب النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليخرُجَ منَ المسجدِ فذَكَّرتُه، فقال: الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ هي السَّبعُ المَثاني، والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُه ))
فضائلُ السُّورةِ وخصائصُها:
لسورةِ الفاتحة فضائلُ كثيرة، وخصائصُ عظيمة، وردَت في السُّنَّة النبويَّة؛ منها:
1- أنَّها نور، ولم يُؤْتَها نبيٌّ قبل محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم
عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: ((بينما جبريلُ قاعدٌ عند النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، سمِع نقيضًا من فوقه؛ فرفَع رأسَه، فقال: هذا بابٌ من السَّماء فُتِح اليوم، لم يُفتح قطُّ إلَّا اليوم، فنزل منه مَلَك، فقال: هذا ملَكٌ نزل إلى الأرض، لم ينزلْ قطُّ إلَّا اليوم، فسلَّم، وقال: أبشِرْ بنورَينِ أوتيتَهما، لم يُؤتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تَقرأ بحرفٍ منهما إلَّا أُعطيتَه )) .
2- أنَّه بقِراءتها تحصُل المناجاةُ في الصَّلاة بين العَبدِ وربِّه
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن صلَّى صلاةً لم يقرأْ فيها بأُمِّ القرآن، فهي خداجٌ -ثلاثًا- غير تمام، فقيل لأبي هُرَيرَة: إنَّا نكونُ وراءَ الإمام، فقال: اقرأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة بَيني وبَين عبدي نِصفين، ولعَبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: الحمدُ لله ربِّ العالَمين، قال الله تعالى: حمَدني عَبدي، وإذا قال: الرَّحمن الرَّحيم، قال الله تعالى: أثْنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: مالِك يومِ الدِّين، قال: مَجَّدني عبدي، (وقال مرَّة: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: إيَّاك نعبُدُ وإيَّاك نستعين، قال: هذا بَيني وبَين عبدي، ولعَبدي ما سأل، فإذا قال: اهدِنا الصِّراطَ المستقيمَ صِراطَ الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالِّين، قال: هذا لعَبدي، ولعبدي ما سألَ )) .
3- أنَّه لا صَلاةَ لِمَن لم يقرأْ بها
عن عُبادةَ بنِ الصامتِ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا صَلاةَ لِمَن لم يقرأْ بفاتحةِ الكِتابِ )) .
4- أنها رقيةٌ شافيةٌ بإذن الله تعالى
عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه، قال: ((انطلَق نفرٌ من أصحابِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في سَفرةٍ سافروها، حتى نزَلوا على حيٍّ من أحياء العرب، فاستضافوهم فأَبَوْا أن يُضيِّفوهم، فلُدِغ سيِّد ذلك الحيِّ، فسَعَوا له بكلِّ شيءٍ، لا ينفعه شيءٌ، فقال بعضُهم: لو أتيتم هؤلاءِ الرهطَ الذين نزلوا؛ لعلَّه أن يكون عند بعضهم شيءٌ، فأتَوَهْم، فقالوا: يا أيُّها الرهط، إنَّ سيِّدنا لُدِغ، وسَعَينا له بكلِّ شيءٍ، لا ينفعُه؛ فهل عند أحدٍ منكم من شيءٍ؟ فقال بعضهم: نعَمْ، واللهِ إني لأرقي، ولكن واللهِ لقدِ استضفناكم فلم تُضيِّفونا! فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جُعلًا، فصالَحوهم على قَطيعٍ من الغَنم، فانطلق يتْفُل عليه، ويقرأ: الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ، فكأنَّما نشِط من عِقال، فانطلَق يمشي وما به قَلَبَةٌ ، قال: فأوْفوهم جُعلَهم الذي صالحُوهم عليه، فقال بعضُهم: اقسِموا، فقال الذي رقَى: لا تَفعلوا حتى نأتيَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فنذكُرَ له الذي كان، فننُظرَ ما يأمرُنا، فقدِموا على رسولِ الله، فذكروا له، فقال: وما يُدريك أنَّها رُقيةٌ؟! ثم قال: قد أصبتُم، اقسِموا، واضرِبوا لي معكم سهمًا، فضحِكَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم )) .
بيان المكي والمدني:
سورةُ الفاتحة سورةٌ مكيَّة، نزلت قبل الهِجرة .
بدليل قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِى وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87].
وجاء عن أبي سَعيدِ بن المُعلَّى رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((... هي السَّبْعُ المثاني، والقرآنُ العظيم الذي أُوتيتُه )) .
فهذه الآية التي ورَد فيها ذِكر السَّبع المثاني، مكيَّةٌ بالإجماع، وقد جاء النصُّ من النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام، بكون السَّبع المثاني هي سورةُ الفاتحة؛ فلزِم من ذلك أن تكون سورةُ الفاتحة مكيَّة .
ومن الأدلة على مكِّيتها كذلك، أنَّ الصلاة لا تصحُّ إلا بها، وقد شُرعت الصلاة بمكة، أي قبل الهجرة .
مقاصد السُّورة
مِن أهمِّ مقاصدِ سورة الفاتحة:
1- التعريف بالمعبودِ تبارَك وتعالى.
2- بيان طَريقِ العبوديَّة.
3- بيان أحوال النَّاس مع هذا الطَّريق .
موضوعات السُّورة:
عرَضتِ السُّورةُ لعددٍ من الموضوعات الرئيسة، وهي:
1- صفات الله عزَّ وجلَّ.
2- اليوم الآخر.
3- إِفراد الله تعالى بالعبادة، ومن ذلك: الاستعانة، والدُّعاء.
4- التعريف بالصِّراط المستقيم؛ طريقِ المهتدين.
5- تجنُّب طريق الغاوين من المغضوبِ عليهم والضالِّين.
مناسبة افتتاح القرآن بسورة الفاتحة:
افتَتح الله سبحانه كتابه بهذه السورة؛ لأنَّها جمَعتْ مقاصد القرآن، ولأنَّ فيها إجمالَ ما يحويه القرآن مفصلًا؛ فجميع القرآن تفصيل لِمَا أجملتْه، وفي ذلك براعة استهلال؛ لأنَّها تنزل من سور القرآن منزلَ دِيباجة الخطبة أو الكتاب .
المعنى الإجمالي:
يخبر الله تعالى عباده بأنَّ الحمد الكامل مستحقٌّ له وحده، ويرشدهم بما أخبر إلى أن يُثنوا عليه، ويمجِّدوه، ويَحمَدوه بجميع المحامِد التي لا يستحقُّها إلَّا هو، ذو الرَّحمة والمُلك، كما يُرشدهم سبحانَه إلى إفرادِه بالعبادة والاستعانة، وطلبِ الهِداية منه وحْده للطَّريق الواضحة التي لا اعوجاجَ فيها؛ طريق الذين أنعم الله عليهم، لا طريق اليهود المغضوب عليهم، ولا طريق النَّصارى الضالِّين.
غريب الكلمات:
رَبِّ: الرَّب: السيِّد، والمالِك، والمصلِح، والصَّاحب، والمربِّي، والخالِق، والمعبود، وأصله: إصلاح الشيء والقيام عليه .
الصِّراط: الطَّريق
تفسير الآيات
الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (1).
هذا خبرٌ من الله عزَّ وجلَّ فيه حمدَ نفسه الكريمة، وفي ضمنه إرشادٌ لعبادِه بأن يحمدوه سبحانه وتعالى .
الْحَمْدُ لله.
أي: جميعُ المحامد للمعبود تبارك وتعالى، لا يستحقُّها إلَّا هو وحده سبحانه، وهو حمدٌ دائم ومستمر.
والحَمْدُ: هو وصفُ المحمود سبحانه بالكَمال، مع محبَّته، وتعظيمِه جلَّ وعلا .
و(الله): اسمٌ ثابتٌ له سبحانه، يتضمَّن صِفةَ الألوهيَّة له عزَّ وجلَّ . ومعناه: المألوه، أي: المعبود .
رَبِّ العالمين.
أي: هو السيِّد، والمالِك، والمدبِّر لجميع العالَمين، وهم كلُّ مَن سِوى اللهِ تعالى، مِن جميع أصناف المخلوقاتِ في كلِّ مكانٍ وزمان .
كما قال تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [الشعراء: 23-28].
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا جاء وصْفُ الله سبحانه نَفْسَه بالرُّبوبيَّة، التي تَعني أنَّه السيِّد، المالك، المعبود الذي له مطلق التصرُّف في عِباده، والتي قد يُفهم منها معنى الجبروت والقهر؛ جاء وصفُه بالرَّحمة بعدها؛ لينبسطَ أملُ العبد في العفو إنْ زلَّ، ويَقْوَى رجاؤه إنْ هفَا .
وأيضًا لما وصف الله تعالى نفسه بالربوبية بيَّن أن تربيته تعالى للعالمين ليست لحاجة به إليهم، كجلْب منفعة، أو دفْع مضرة، وإنما هي لعموم رحمته وشمول إحسانه .
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2).
هما اسمانِ مشتقَّان من الرَّحمة على وجه المبالَغة، ورحمن أشدُّ مبالغةً من رَحيم؛ وذلك لأنَّ (رحمن) على وزن فعلان، وهذه الصيغة تفيد الكثرة والسعة ، فالرَّحْمَن: ذو الرَّحمة الواسِعة لجميع خلقه، والرَّحِيم: ذو رحمةٍ خاصَّة، يختصُّ بها عبادَه المؤمنين .
قال الله تعالى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ [العنكبوت: 21]، وقال سبحانه: وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 43].
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لما وصف تعالى نفسه بالرَّحمة، وكان هذا قد يؤدِّي بالعبد إلى غلَبة الرَّجاء عليه؛ نبَّه بصفة الملْك ليوم الدِّين؛ ليكون العبد من عمله على وَجَل، وليعلمَ أنَّ لعمله يومًا تظهر له فيه ثمرته من خيرٍ وشر .
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3).
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: مَالِكِ قِراءتان:
1- مالِك بالألف مَدًّا، وهو: المتصرِّف بالفِعل في الأشياء المملوكةِ له .
2- مَلِك بغير ألف قَصْرًا، وهو: المتصرِّف بالقول أمرًا ونهيًا في مَن هو مَلِكٌ عليهم .
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3).
أي: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ هو المتصرِّف في جميع خلْقِه بالقول والفِعل .
كما قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله [الانفطار: 17-19].
وكما قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم: 40].
وقال أيضًا: لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لله الوَاحِدِ القَهَّارِ [غافر: 16].
يَوْمِ الدِّينِ.
أي: يوم الجَزاء والحِساب .
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (4).
أي: قولوا: إيَّاك نَعبُد وإيَّاك نستعين .
والمعنى: لا نعبُد إلَّا أنت، متذلِّلين لكَ وحْدَك لا شريكَ لك، ولا نستعين إلَّا بك وحْدَك لا شريكَ لك .
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (5).
مناسبة الآية لما قبلها:
لما ذُكِرَت العبادة والاستعانة بالله تعالى وحده، جاء سؤال الهداية إلى الطريق الواضح؛ فبالهداية إليه تصح العبادة، فمن لم يهتد إلى السبيل الموصلة لمقصوده لا يصحُّ له بلوغ مقصده .
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (5).
أي: قولوا: اهدِنا الصِّراطَ المستقيم .
والمعنى: دُلَّنا على الطَّريق الواضِح الذي لا اعوجاجَ فيه، ووفِّقنا لسلوكه، وثبِّتنا عليه .
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (6).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا كان في الآية السابقة طلبُ الهِداية إلى أشرفِ طَريق، ناسَب ذلك سؤالَ أَحسنِ رفيقٍ ، فقال تعالى:
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.
أي: طريق الذين أَنعمَ الله تعالى عليهم بالهِداية إلى الصِّراط المستقيم، وهم الذين علِموا الحقَّ وعمِلوا به؛ امتثالًا لِمَا أمَر الله عزَّ وجلَّ، واجتنابًا لِمَا نهى عنه سبحانَه، بإخلاصٍ لله تعالى، ومتابعةٍ للرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وهم المذكورون في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69] .
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7).
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.
أي: إنَّ مِن صفات الذين أَنعم الله تعالى عليهم، أنَّهم ليسوا كاليهود، ومَن سلَك طريقتَهم في ترْك العمل بالحقِّ بعد معرفته .
فأخصُّ أوصاف اليهود، الغضبُ، كما قال الله تعالى فيهم: مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة: 60]، وقال سبحانه أيضًا: فَبَاؤُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [البقرة: 90].
وعن عَديِّ بن حاتمٍ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((المغضوب عليهم: اليهود)) .
ولا الضَّالِّينَ.
أي: إنَّ من صِفات الذين أنعمَ الله تعالى عليهم، أنَّهم ليسوا كالنَّصارى، ومَن سلك طريقتَهم ممَّن جهِلوا الحقَّ، فعبَدوا الله تعالى بغير عِلم .
فأخصُّ أوصاف النصارى الضلال، كما قال سبحانه: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77].
وعن عديِّ بن حاتم رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ولا الضالين: النَّصارى)) .
الفوائد التربويَّة:
1- أنَّه لما كان أوَّلُ السُّورة مشتملًا على الحمد لله، وتمجيده، والثناء عليه، وآخرُها مشتملًا على الذمِّ للمعرضين عن الإيمان به، والإقرار بطاعته- دلَّ ذلك على أنَّ مَطلع الخيرات، وعُنوان السعادات، هو الإقبالُ على الله عزَّ وجلَّ، ومطلعَ الآفات، ورأس المخالفات، هو الإعراضُ عنه سبحانه، والبعدُ عن طاعته .
2- أنَّ الله تعالى مستحقٌّ للحَمدِ الكامِل، ومختصٌّ به من جميع الوجوه؛ ولذا ينبغي على العبد أن يستشعرَ بأنَّ كلَّ قضاءٍ لله تعالى، فهو محمودٌ عليه جلَّ وعلا .
3- أنَّ رُبوبية الله عزَّ وجلَّ مبنيَّةٌ على الرحمة الواسعة للخَلق الواصلة؛ لأنَّه تعالى لما قال: ربِّ العَالَمِينَ كأنَّ سائلًا يسأل: (ما نوعُ هذه الربوبية؟ هل هي ربوبيَّة أخْذ، وانتقام؛ أو ربوبيَّة رحْمة، وإنعام؟) فقال تعالى: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
4- أنَّ في قوله: مالِكِ يَومِ الدِّين حثَّ الإنسانِ على أنْ يعملَ لذلك اليوم الذي يُدان فيه العاملون .
5- قوله تعالى: إيَّاكَ نَعبُدُ تبرؤ من الشرك، وقوله: وإيَّاكَ نَستعينُ تبرؤ من الحول والقوة، وتفويض إلى الله عز وجل.
وهذا المعنى في غير آية من القرآن، كما قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود: 123] قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [ الملك: 29] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 9]؛ لذا قال بعض السلف: الفاتحة سرُّ القرآن، وسرُّها هذه الكلمة: إيَّاكَ نَعبُدُ وإيَّاكَ نَستعينُ .
6- تربية المسلم على اللُّجوء إلى الله عزَّ وجلَّ، ومِن ذلك استعانتُه به على العبادة، ودعاؤه دومًا أن يَهديَه الصِّراطَ المستقيم .
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:
1- في قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 2]، تقديم وصْفِ الله تعالى بالألوهيَّة على وصفه بالربوبية؛ وهذا إمَّا لأنَّ (الله) هو الاسمُ العَلَم الخاصُّ به، والذي تتبعه جميع الأسماء؛ وإمَّا لأنَّ الذين جاءتهم الرُّسُل يُنكرون الألوهيَّة فقط؛ ولأن اسم الله تعالى دالٌّ على كونه مألوهًا معبودًا، تؤلِّهه الخلائق محبَّةً وتعظيمًا وخضوعًا، وفزعًا إليه في الحوائج والنَّوائب، وذلك مستلزمٌ لكمال ربوبيَّته ورحمته .
2- في قوله تعالى: يَوْمِ الدِّينِ إثباتُ البَعث والجزاء .
3- إيثار ذِكر إلهيته سبحانه وربوبيته ورحمته وملكه في أوَّل الفاتحة على ذكر سائر الصِّفات؛ لأن هذه الصفات الأربع مستلزمة لجميع صفات كماله عزَّ وجلَّ .
4- في قوله عزَّ وجلَّ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ تفصيلٌ بعد إجمال؛ فقولُه تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ مُجمَل، وقوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مفصَّل. وفائدتُه: أنَّ النفسَ إذا جاء المُجمَل تترقَّب، وتتشوَّف للتفصيل والبيان، فإذا جاء التفصيلُ ورَد على نفسٍ مستعدَّة لقَبوله، متشوِّفة إليه .
5- إسنادُ النِّعمة إلى الله تعالى وحْدَه في هِداية الَّذين أنعم عليهم؛ لأنَّها فضلٌ محضٌ من الله .
6- قدَّم المغضوب عليهم على الضالِّين؛ لأنَّهم أشدُّ مخالفةً للحقِّ من الضالِّين؛ فإنَّ المخالف عن علم يصعُب رجوعُه، بخلاف المخالِف عن جهل ، ولأنَّ أخص الموصوفين بـالمَغضُوبِ عَلَيهِمْ هم اليهود وأخص الموصوفين بـالضَّالِّينَ هم النصارى واليهود سابقون على النصارى في الزمن .